بقلم الكاتب : محمد سحيم
أنا ابن جيل لم ينل ما يكفي من التعليم و الحليب والزيت والطماطم و"الدحي" بسبب الثورة .. لأني ولدت في فترة تعبد فيها " الثورة " ويستغنى عن كل ما سواها،
لم يكن مسموحاً لأحد أن يطلب شيئاً أو يطالب بنصف شيء لأن أصحاب الثورة كانوا يخافون على ثورتهم أكثر من خوفهم على الشعب الليبي وأي مطلب مدني أو حقوقي أو حتى لأجل المعدة وغطاء العورة اعتبر محاولة للانقضاض على الثورة ، لم نملك مكرهين إلا تدليل هذه الثورة حتى تكمل "زحّرتها" الأبدية.
كان الجوع تهمة والمرض تهمة والعوز تهمة إلا لمن خبأها وأبدى لثورته الولاء والطاعة ومواثيق الشرف ، كانت الحكمة أن من عنده قطعة ثورة لا يحتاج سوى الخبز والماء .
كانت برامج الأطفال ثورية .. نشرة الأخبار ثورية ..الإعلانات التجارية ثورية ....إمام الجامع ثوري ... المعلم ثوري .. الناضر ثوري ... عامل النظافة ثوري ...المزارع ثوري .... الراعي في المرعى ثوري ... الأبقار ثورية الأغنام ثورية ... الثيران ثورية..... كانت الثورة حرف وصل لازم بين كل حرفين لا يصح الكلام بدونها.
***
في العام الذي دخلت فيه المدرسة (1987) لم أكن بحاجة إلى الثورة بمقدار حاجتي إلى حقيبة كتب ولآن الثورة في تلك السنة كانت في أتم غنجها استبدلت الحقيبة بغلاف "مخدة" حتى لا نقلق هناء ثورتنا العظيمة.
من لم يستسغ هذه الحالة الثورية أبداً كان يسأل عن موعد انتهاء هذا الهيجان المستمر مستنداً إلى أن الحياة تنظمها وتحميها قوانين الدولة وأن الثورة – إن حدثت- فهي فعل لحظة وليست حالة نفاس قد تطول 40 ليلة أو 40 سنة ، أذكر أني دفعت ثمناً لهذا السؤال البريء ودفع آلاف الليبيين أثماناً باهظة لجرأتهم على الإلهة الثورة.
***
جاءت مرحلة ما بعد الحصار وخففت عقوبة المطالبة بالدولة من السحل والتصفية في الشوارع إلى مجرد الطعن بسكين أو الضرب بالهراوات في الشارع العام على مرأى من الناس ، لاحقاً صار من الممكن المطالبة بدولة تحت حذاء الثورة مقابل بعض التهديدات والوعود باللجوء إلى الكلاشنكوف لحسم صراع الثورة .كانت الثورة إسهالاً مزمناً سبب في جفاف أطراف ليبيا واستنزفها إلى حد صارت فيه رؤية ليبيا من الطائرة أشبه بالوقوف على جثمانٍ قضى بالجوع .
طالبنا بحد أدنى من الدولة يمكن من خلاله بث الحياة فيما تبقى من أطراف الجثة وطالب العديد من الليبيين بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية بإقامة هذا الملاذ لما تبقى من الليبيين واستثمرت هذه الصرخات لصالح إعلاء مشروع توريث الثورة فيما عرف بمشروع الإصلاح.
عادت الثورة المدللة والتهمت مشروع الإصلاح وبقي التوريث وعاد الليبيون إلى الصلاة أمام مقدمة حذاء الثورة علّها ترضى بعد كل هذا البذل.
***
دخل عام 2011 على المنطقة محملاً بالثورات وخلال شهره الأول صارت ثورتنا تجلس بين ثورة تونسية غرباً وثورة مصرية شرقاً وكان حرياً بها أن تزغرد لهذا الأنس وأن تبتهج لانقضاء سنوات الوحدة والانحشار بين أنظمة جمهورية تقليدية وأن تسمح لشعبها مثل جيرانه أن يمارس ثورته جهاراً بدلاً من عادات الوشوشة السرية .فوجئنا بامتعاض هذا المكون الذي كان يسمي نفسه ثورة و لاحظنا مدى الانتشار الأمني فيما تبقى من ليبيا وتحولت الثورة من معبودة إلى كلمة محرمة ، ومن كانوا يدعون إلى تثوير كل شيء صاروا يتحدثون عن الأمن والأمان والاستقرار واستأجروا من الله بعض الكلمات التي تقدس الاستقرار والحياة الهانئة.
***
ما سبق يضعني أمام واجب أخلاقي يحتم علي توجيه الخطاب مباشرةً إلى السيد معمر القذافي بوصفه السلطة العليا والوحيدة في ليبيا .أعرف كوني ابن جيل يمثل 75% من سكان ليبيا أنه –هذا الجيل- قد سئم من دلال هذه الثورة التي تحولت إلى (حال واقع) لا يشبه ثورات الجوار.
وأعرف أن تطمينات المستشارين الأمنيين باستقرار الوضع ودعوات الشعب لحضرتكم بطول العمر تشبه تلك التي سمعها زين العابدين وحسني مبارك قبل أن يروا الناس في الشوارع.
وأعرف أن من حولك من يعدك ويقسم لك بنسف كل من يتجرأ على النزول إلى الشارع مطالباً بالكرامة .
وأعرف أنه تحيط بك أدوات التهليل والتزمير والنفاق بما يكفي لحجب الحق عنك.
حتى اللحظة لم تنزلق ليبيا إلى دوامة الحالتين التونسية والمصرية وبصفتي ابن هذا الجيل وابن الأحياء الفقيرة أقول لك أن ليبيا ذاهبة في ذات الطريق وأن ما سيحدث في ليبيا ستمتطيه بعض القوى الخارجية لتسريع وتيرته لتثبت للمنطقة أنها نصيرة الحرية والديمقراطية.
السيد معمر القذافي أضعك أمام مسؤولية تاريخية لتسمح لليبيين بممارسة حقوقهم في إقامة دولتهم وإطلاق الحريات وتشكيل الأحزاب والتجهيز لانتخابات تسهل وتختصر انتقال السلطة إلى حكومة وطنية منتخبة .
هذه الإجراءات قد تختصر إراقة دماء ليبيا وتسجل لك العبور بليبيا إلى بر الأمان الفعلي والاستقرار الحقيقي.
يبقى أن أشير إلى أن اعتقالي أو سجني أو قتلي أو نفيي لن يغير من الحالة أو لربما يعجل بانفجارها.
So7aim@yahoo.com
* رايس لبلاد عنوان أغنية راب تونسية غناها ووجها الرابر المشهور بالجنرار مخاطباً الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي قبل الثورة بأيام ، تجدونها على هذا الرابط :
نشر هذا المقال بتاريخ 05 / نوفمبر / 2011 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق