إجمالي مشاهدات الصفحة

الأربعاء، 29 يونيو 2011

فاطمة محمود : مذبحة ابو سليم


القتلى أكثر من 1200…لكن الرواية واحدة. إنها رواية القتل الجماعي بكل مضامينه وأشكاله.مقتل هؤلاء الجماعي بين يومي 28 و29 يونيو في ما يعرف بمجزرة سجن “بوسليم”..هو ليست بداية الرواية ولا هو نهايتها. انه فصل من فصول سرد هذا الموت امتدت لأكثر من أربعة عقود.. كل عقد يأتي في رزنامة القذافي الدموية إنما ليتكامل مع بعد آخر للموت.. موت الإنسان.. موت الضمير.. موت الزمن.. وهذا الأخير أحد الرهانات التي توكّأ عليها القذافي في عملية قتل الذاكرة الجماعية. ذلك ما توخّاه القذافي،في ما يخص جريمته البشعة، التي ارتكبها في سجن بوسليم العام 1996، إذ استعرض أمامنا مهاراته في التغطية على جريمته متبعا أساليبه الملتوية ومناوراته المعروفة في التنصَّل من جريمته تلك. وحين انكشف أمره أمام العالم، وذهبت كل محاولاته في التكتم على بشاعة ما اقترفه أدراج الرياح، صرّح بأنها مجرد “أحداث مؤسفة”!!
هكذا حاول القذافي تسويق جريمته للرأي العام.. وقد قدّر أن الغرب، المنشغل بعودته “المظفرة” بنفطه وغازه وملياراته، سوف لن يتوقف أمام ما تسميه المعارضة الوطنية وفعالياتها بأنه جريمة وحشية. وسيتبنى (هذا الغرب) رواية القذافي التي تقول بأن المسألة كلها مجرد “أحداث مؤسفة” طواها الزمن!
بعد نحو 10 سنوات من التكتم والإخفاء واللعب على الوقت.. ومحاولة التملّص من هذه الجريمة.

بعد أن حفيت أقدام الأمهات بين سجون كل من بنغازي وطرابلس حاملات هداياهن لفلذات أكبادهن معتقدات أنهم أحياء يرزقون.
بعد نحو10 سنوات منحت فيها القذارة لقبها لنظام القذافي وقد فاحت رائحتها في أرجاء العالم.أخذ هذا النظام في تبليغ أسر الشهداء بأن أبنائهم توفوا لأسباب صحية عارضة: ضغط دم.. ارتفاع أو انخفاض نسبة السكر… أزمة قلبية.. هذا ما أُبلِغ به الأهالي.. أما الرأي العام العالمي فالمسألة مجرد “أحداث مؤسفة” !
وبغض النظر عما يلائم القذافي من تعريفات لجريمته وما يسبغه عليها من أسماء تنحو نحو الذهاب بعيدا في لعبته المفضلة، لعبة الوقت والإستفادة القصوى من تمييعه؛ فإن المسألة برمتها، بما فيها الأسلوب الذي اتبعه النظام في تبليغ أهالي ضحاياه، عدا كونها تتصف بالنذالة والخسّة، فهي تضمر الإحتقار والتعالي على آلام الناس الذين يطالبهم هذا العقيد بالولاء المطلق له حتى وهو ينكِّل بأولادهم ويقتلهم! ذلك لأنه كان مطمئنا إلى أنه لا أحد من الليبيين سيدَفـِّعه ثمن جريمته. فهاهم أهالي الضحايا يبكون أولادهم سرا ولا يزعجونه بأي مطالبة . وهم حين بُلِّغوا بموت أبنائهم أُمروا بعدم إقامة أي من شعائر العزاء.. أي أنه على الأمهات والأرامل واليتامى البكاء في حجرات مغلقة !..
أما القصد من وراء هذا التكتّم فهو الخوف من تسييس الحزن أي عدم جمهرة الحزن أو خلق تجّمع ما باسم الحزن الذي قد ينقلب في هذه الحالة إلى غضب.. فالنظام يخشى من تسييس الحزن وما قد يجره من إخلال بأمنه الذاتي!
ولكن.. هل أفلح القذافي في قمع حالة بوسليم أو حتى تحجيمها؟!
فبينما كان العالم يتلهى بالتندر على أزياء القذافي وغرابة أطواره ولا يتوقف كثيرا أمام معاناة الليبيين التي كانت تتفاقم مع كل يوم جديد جرّاء استبداد هذا الحكم البشع.
وفيما كان القذافي يرتّب لتوريث ليبيا لإبنه، ومسألة التوريث هذه كانت حسبه،أيضا، مسألة وقت، إلا أن “بوسليم” كانت تشكِّل عثرة من العثرات التي قد تواجه مسيرة التوريث.. فالقذافي يعتقد إنه قد اجتاز قائمة طويلة من الجرائم والعقوبات ولم يعد له من ملفات صعبة تعرقل مشروعه التوريثي؛ فقد توقع اجتياز ملف لوكربي وشقيقاتها، طائرة اليوتا، مقهى لابيل، ثم الحصار وملفاته.
أما في ما تعلّق بمساندة القذافي للإرهاب الدولي فقد وشى بـأسماء منتسبي”الجيش الجمهوري الإيرلندي،لحكومة صاحبة الجلالة، وأصبح بلير رئيس الحكومة البريطانية مستشاره الخاص بل قل موظفا في باب العزيزية يتقاضى راتبا ضخما نظير استشاراته التي يقدمها له.ثم إنه سلّم لبوش (الصليبي) ما يسمى ببرنامج المشروع النووي الليبي. ثم إنه لم يعد له من ملفات تشغله إلا ما يتعلّق مباشرة بالليبيين.. وهؤلاء بالنسبة له لا يشكّلون أي خطورة عليه؛فقد تعامل مع حرب تشاد بالإنكار شبه المطلق لها إذ أنكر حتى أن له أسرى حرب في تشاد،ولا أدري كيف أقنع لجانه الثورية بأنه كسب الحرب في تشاد. أما قضية الأطفال المحقونين بالإيدز فقد قام بحلحلتها بشعوذاته السياسية المتداولة.. وها هو وريثه يتسلم مشعل الشعوذة من “السيد الوالد” ويتكفل الإصلاحيون الذين وجدوا في سيف ، القارة المفقودة والجنة الموعودة،يتكفّل هؤلاء بترتيب ملفات ” قضية بو سليم العالقة في ملف التوريث وأحالوها بشيء من الشعوذة السياسية إلى ما سموه بـ”المصالحة الوطنية” إنهم حتى لا يشيرون إلى حيثيات وتفاصيل ومتعلقات القضية.. فالليبيون ليسوا طرفا في أي قضية تتعلق بهم وهم نادرا ما يسمعون عن قاض نزيه أو قضاء نزيه ما بالك بمصلح سياسي نزيه ؛ بل إن النزاهة مفهوم ليس له أرجل ليقف بها على الأرض في جماهيرية السيد الوالد، الذي يعمل على التقليل من شأن الجريمة بالمماطلة من جهة وبالتقليل من عدد الضحايا من جهة أخرى. ورأيناه يحيلها إلى وريثه المنتظر ليبطل صاعق انفجارها في حملته الدعائية في مشوار التوريث الصعب، وعلى هذا الأساس تم اختراع بنية حقوقية تنطلق منها “إصلاحات، المصلح الكبير، سيف القذافي” وهي : جمعيات القذافي لحقوق الإنسان، محامون ومدّعون، ومحطات بث فضائية بملحقاتها البشرية. مكاتب وفروع وناطقين وناطقات، صحفيون وصحافيات، أنصاف معارضون ومعارضات، مبشرون ومبشرات بليبيا الغد. نعم انه تحوّل خطير تقول لي سيدة ألمانية تنشط في حقوق الإنسان في ما يخص الملف الليبي : أول مرة منذ عشرين عاما نتلقى رد من السفارة الليبية في إحدى الدول الأوروبية يقول : سنحول المطالبات التي تمطروننا بها إلى “جمعيات القذافي لحقوق الإنسان” !
ثم رأينا سيف القذافي وسمعناه يردِّد ما تفوّه به السيد الوالد.. ولو بصياغات أخرى.. وكلها تفضي إلى أن القضية كلها “حوادث مؤسفة”. ورأينا سيف القذافي يلعب على الوقت تماما كما يفعل السيد الوالد.
إلى أن جاء الوقت ليحتج على هذا اللعب به… وهذا الوقت لم يأت في وقته هكذا بدون فعل إنساني .. أمهات بوسليم بوقفاتهن التلقائية المؤجِّجة لغضب استمر عقود .. لوعتهن كانت الخطوة الأولى نحو الفعل.. ولوعتهن كانت احتجاج على صمت الشارع الذي كان يمور بحالات الرفض إلا أنه لم يحرك ساكنا.. إلا أن أمهات ضحايا بوسليم مثّلن اللحظة الفارقة في هذا الحراك الوطني ..كنّ الصاعق الذي فجّر لحظة الكرامة الوطنية.. لحظة ثورة 17 فبراير.. اللحظة الفارقة في تاريخ هذا الشعب. ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق