وفاء البوعيسي
كاتبة ليبية مقيمة بهولندا
كاتبة ليبية مقيمة بهولندا
لابد أن النهار بسماء باب العزيزية بات رمادياً وكهلاً ، يموج بالرياح ونُذر التخلي ، حيث هناك يتوالى انفراط الأصدقاء ، وهروب أبناء العمومة ، ومشاحنات الابناء ، وارتباك الابنة ، التي ماتزال قادرة ـ رغم كل شيء ـ على الكذب بلا شعور بالذنب ، وفي الأفق ، تتحرك ـ عبثاً ـ مسرعة ومذعورة ، مئات الخطط البليدة ، في محاولة يائسة ، لرتق الأسمال البالية في ثياب العقيد بلا جدوى ، تريد أن تنتقم ، تقتل ، تفتك ، تغتصب ، قبل أن تُعلن عن خروجه الجبان ، أو هروبه المحتمل من موت وشيك ، وترتعش بابتذال مُهين ، تتلعثم خائفة أمام السحنة القذرة والمقلوبة ، لسيد باب العزيزية ، الذي لطالما مثّل احتمال أن يكون هو الحلقة المفقودة ، بين الإنسان والغوريلا ، في التطور النوعي لسلسلة الكائنات الثدية.
خلف سور باب العزيزية ، بجدرانه المقاومة للقصف النووي كما يُشاع ، والمطوقة بآلاف من الدروع البشرية كما أخشى ، ينتصب كائن نحيف ، منحرف الشفة العليا ، لإصابته بتيبس في شرايين وجهه ، يقف بارتعاش ، يترنح قليلا ، ترحل عيناه بخوف دائم، إلى تقاسيم كل الوجوه التي تهتف له ، وأجساد الذين يركضون لخدمته ، يراقب باحتراس شديد ، حركات أصابع ابناءه السبعة ، وزوجته المنبعجة الكرش ، وشُخشيخة ابنته الوحيدة.
قدماه الآن بالجحيم ، عالقتان بين السماء والأرض ، تتقدم مخاوفه دون أن تعرف عما تبحث ، ولا ما يبحث عنها ، تتبع فقط جوعه الداخلي ، وتعطّشه الفطري للسلطة ، لكنها رغم ذلك ، تجرُأ على الشعور بالأمل ، الأمل في أنها قد تفلح في تجاوز إرادة العالم ، وعشرات الآلاف من الليبيين القتلى ، والمعطوبين ، وآلاف المخطوفين والمفقودين ، وتفلح أخيراً ، في العبور ثانية إلى خارج ذلك السور.
لابد أن جدران باب العزيزية ، تنشق الآن عن هلع لا يدري عنه ، مثل موجة تتحطم مدويّة على الصخور ، هلع يطلع من كل مكان ، من الدهاليز المحروسة بأبواب عالية ، ومقاوِمة للمدافع والصواريخ ، من الممرات الطويلة الغائرة تحت الأرض ، إلى مسافات يصعب الوصول إليها ، من زوايا الغرف التي اعتاد فيها مقابلة الكتاب والمثقفين ، حين ينوي تهديدهم وابتزازهم ، لتخليد أفكاره النذلة باسمائهم.
لابد أن أسطح الغرف فوق رأسه الآن ، تبدو أكثر انخفاضاً ، ونشيش الهواجس والخوف ، يصفرّان في دماغه الساخن ، وهو يحلم بمعجزة ما ـ تنشق عنها الأرض ، أو تجود بها السماء ـ يمكنها أن تسمح من جديد ، لبضع نسمات لطاف ، أن تتسلل إليه في سجنه الكبير هناك ، ولابد أن الصور تتداخل اليوم برأسه ، يختلط حاضرها بالماضي ، حاضرها الذي ظن أنه لن يكون هكذا أبداً ، والماضي الذي كلّفه الكثير الكثير من دماءنا ، ودماء غيرنا بتشاد ، وتونس ، ومصر ، وآيرلندا ، ولبنان ، والسودان ، ونيكاراغوا ، واسكوتلندا ، وأوغندا ، وألمانيا ، وبريطانيا ، ليهددا أخيراً مشاريعه التي تعلن له بعناد عن تراجعها ، وانهيارها أمام عينيه.
ولابد أنه يحلم بتلك الأيام ، حين كان بوسعه مغادرة قلعته بباب العزيزية ، ليشعر من جديد بطراوة المكان بالأعلى ، ويتمشى قليلاً على السطح الناصع ، بتلك السترات المقاومة للرصاص والطعنات الغادرة ، وسط مجموعة من الحرس ، سبب ولائهم الوحيد له ، شرائهم بملاييننا نحن ، أو تورطهم معه بإراقة الدم الليبي ، ولابد أنه يحلم بأن يستعيد من جديد ، تلك اللهفة البلهاء ، للضوء يتسلل من زجاج سيارته المقاوم للرصاص ، وهو ينعكس مترقرقاً على الطرقات أمامه ، حين تنهب سيارته الشوارع ، التي أُخليت له خصيصاً منذ يومين مضيا.
صار مؤخراً لا يرى غير الخريف ، الذي تغرق فيه ساحات مدخل باب العزيزية ، وغرف انتظار كبار الزوار بمقاعدها الوثيرة ، وسجاجيدها الحمراء الوثيرة الناعمة ، الفارغة تماماً الآن ، إلا بمن يغريهم بعقود التنقيب عن النفط ، ودهاليز الممرات التي تغص بكاميرات المراقبة وكلاب الحراسة المدربة ، وجنود يافعين داكني البشرة مجعدي الوجه من التعب والاعياء ، بعد أن كانت تمتلئ بحشود المتملقين ، يحرصون في كل مناسبة على نيل رضاه ، ودرجات السلالم التي تعودت حارساته أن يرتقينها حافيات ، مستعدات عند أقل إشارة انزعاج تلوح على وجهه ، أن يبرزن أسلحتهن من تحت حزام بنطال الجينز الضيق .
صار يرى كل شيء من حوله شاحباً ، ومُصفرّاً مثل درن رئوي ، آيل للتهشم والسقوط ، وهو يشاهد كل يوم المدن الليبية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب تتحرر من قبضته ، وتعلن له في تحدٍ خروجها عليه ، تختلج رأسه بآلاف المخاوف ، والأصوات ، والدوامات ، والكراهية ، والعالم يحسّه يُظلم ويضيء بآلاف الأنوار الخاطفة ، التي تشتعل في ذهنه المتبلد ، وتعيده بفظاظة دائماً إلى واقع بات يخشاه ، ويخاف الاعتراف به ، في كل مرة يشاهد فيها قناة الجزيرة أو العربية أوالحرة أو السي آي إي والسكاي نيوز التي لا يفهم منهما شيئاً ، إلا أنه بدأ يضمر ويموت.
لابد أن لهباً حارقاً يتصاعد من أبعد نقطة بأعماقه ، وأن شيئاً حاراً يستعر في قلبه المشموخ بالوهن ، في كل مرة يرى فيها المجلس الانتقالي يحقق مكاسب جديدة للثورة ضده ، فينال اعترافاً سياسياً هنا ، أو تأييداً دولياً هناك ، أو يجلس ممثله الشرعي إلى مائدة مستديرة ، مع ذات الحكام والزعماء ، الذين كان يجالسهم يوماً ، متبختراً بثيابه المزركشة الطريفة ، أو يُعلن عن قرب افتتاح سفارة لدولة فرنسا ، قطر ، السنغال ، إيطاليا ، غامبيا.
حتماً أن مئات الهزائم والخسائر ، والخوف من الليبين والغد والتاريخ تتشابك الآن أمام عينيه ، وبالكاد تُسعفه ذاكرته المقروحة ، بالإحباط والإحراج ـ أمام نفسه وعائلته المتسلقة المستعدة لمبادلته والتخلي عنه عند أول سانحة ، وموظفيه الذين يتمنون هلاكه أو القبض عليه ، أو قتله لو يتاح لهم ـ بمخارج ما ، تجعله قادراً على الهروب بالوقت المناسب ، والتنصل من كل شيء كعادته.
لكن ذعراً جديداً ومن نوع مختلف ـ يعايشه لأول مرة ـ يضعه اليوم وجهاً لوجه أمام نفسه ، يُحيله إلى ذلك الشعور المرير ، بالحقد والضغينة ، اللذان باتا يلازمانه منذ فترة ، كلما وجد نفسه مزروعاً أمام التلفاز ، كحيوان مشدود إلى وتد ، يشاهد بحقد ، كاثرين آشتون تهبط بطائرتها في بنغازي ، التي لم يضمر لها السعادة يوماً ، وهي تفتتح على الفور مكتباً يمثل 27 دولة أوربية ، تعلن دعهما لمن يقتلهم ، أو ينتظر بترقب رهيب قرار لويس مورينو أوكامبو ، الذي سيُحيله إلى مُلاحق ومطلوب حتى داخل سور زنزانته المنيع ، لكن ذعره ذاك ، لا يمنعه من أن يصر لنفسه ، أنه لا زال حراً ، حراً تماماً ، حرٌ خلف حوائط اسمنتية مسلحة ، حر داخل قفصه الصدري ، حر داخل دمه المعتكر، حر داخل دائرته ، حيث لازال بوسعه ـ رغم ضجيج العالم من حوله ـ تحريك كرسي ، إزاحة طاولة ، أو الإمساك بقلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق